هو المصلح الثوري و الشاعر الصحفي و العالم المفسر و المعلم المربي و الكاتب السياسي، من رواد الحركة الإصلاحية و العلمية بالجزائر، مؤسس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، ارتبط اسمه لدى الجزائريين بالعلم و يحتفون به تخليدا لذكرى وفاته المصادف لـ : 16 أفريل من كل عام.
هو الذي قال عن أمته: »إن الأمة الجزائرية ليست هي فرنسا و لا يمكن أن تكون فرنسا و لا تريد أن تصير فرنسا و لا تستطيع أن تصير فرنسا لو أرادت، بل هي أمة بعيدة كل البعد في لغتها و في أخلاقها و في عنصرها و في دينها، لا تريد أن تندمج و لها وطن معين هو الوطن الجزائري »، لهو رجل يقظ عقله ،نقية سريرته. هو عبد الحميد بن محمد المصطفى بن مكي بن باديس ولد في مدينة قسنطينة في 4 من ديسمبر 1889م، نشأ في أسرة كريمة ذات عراقة و ثراء و دين، فأبوه كان حافظا للقرآن و يعد من أعيان المدينة، و عرف بدفاعه عن حقوق المسلمين في الجزائر، و ينتمي إلى أسرة مشهورة في الشمال الإفريقي. حفظ القرآن و هو في الثالثة عشرة من عمره، ثم انتقل إلى العالم الكبير » حمدان الونيسي » بجامع سيدي محمد النجار و تلقى منه العلوم العربية و الإسلامية، و كان لهذا العالم اثر ايجابي في نفس العلامة، استكمل دراسته بجامع الزيتونة بتونس الذي كان منارة العلم في شمال إفريقيا، أين نهل من علوم اللغة و الأدب و الدين و الحكمة والتاريخ.
بعد عودته إلى الجزائر عزم على بعث نهضة علمية جديدة، فألقى دروسه في الجامع الكبير بقسنطينة و في الجامع الأخضر، أين كان يلقن العامة دروسا لتفسير القرآن، فشغلهم حديثه العذب و فكره المتقد، و بدأت رحلته في تكوين النخبة التي حملت مشعل الإصلاح، داعيا إياهم إلى الالتزام بالدين و تغيير ما بأنفسهم ليغير الله ما بهم. حارب الصوفية التي اتخذتها فرنسا وسيلة للسيطرة على عقول الجزائريين و وصفهم بأنهم ابتدعوا أعمالا و عقائد من عند أنفسهم، معتقدين أنهم يتقربون الى الله. أتم تفسير القرآن في دروسه على حلقات متصلة استمرت خمس و عشرين سنة، و احتفلت الجزائر بختمه احتفالا قوميا في قسنطينة بتاريخ: 12 جوان 1938.
أثمرت جهود ابن باديس في إنشاء جمعية العلماء المسلمين سنة: 1931م و جعل شعارها: » الإسلام ديننا و العربية لغتنا و الجزائر وطننا »، انتخب رئيسا لها وركز على أهمية التربية و التعليم في تحقيق أهدافها و المحافظة على كيان الأمة في مواجهة جهود المستعمر المستميتة للقضاء على الهوية الإسلامية ، و لهذا اهتمت الجمعية بإنشاء المدارس التي تعنى بالمناهج العربية الإسلامية و تحث الأمة على إرسال أبنائها إلى مدارسها بهدف تعليم أكبر عدد منهم تعليما صحيحا.
انشغل ابن باديس ببناء الإنسان و إنقاذ الأجيال التي ولدت في أحضان الاستعمار عن طريق مؤلفاته و مقالاته و الدروس التي كان يلقيها في المساجد و المدارس، و من أبرزها: تفسير ابن باديس، مجالس التذكير في مجالس البشير النذير، العقائد الإسلامية من الآيات القرآنية و الأحاديث النبوية، رجال السلف و نساؤه.
في أيامه الأخيرة مرض مرضا شديدا فوافته المنية في 8 ربيع الأول 1359هـ الموافق لـ : 16 أفريل 1940م عن واحد و خمسين عاما، تاركا إرثا عظيما في ميادين مختلفة و إسهامات كبرى في تحرير العقل الجزائري من براثن الاستعمار و أغلاله. أما نحن فإننا نتيقن أن هذه الأمة الإسلامية العربية استيقظت من سباتها و هبت للنهوض من كبوتها و شعرت بكرامتها و أخذت تذكر ماضيها أيام حريتها و استقلالها فانتبهت تعمل لفك قيودها و نيل حريتها. رحمك الله يا ابن باديس في رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه و منهم من ينتظر و ما بدلوا تبديلا.
في كلّ مرة أسمع بعض النّاس أو أقرأ منشورات تتساءل لماذا تحتفل الدول ببعض أبطالها بمناسبة يوم وفاتهم وليس بمناسبة يوم ميلادهم؟ولماذا نحتفل في الجزائر بيوم العلم في 16 أفريل المؤرخ لوفاة الشيخ عبد الحميد بن باديس في 16 أفريل 1940، ولا نحتفل به في يومولادته: 4 ديسمبر؟ إنّ تاريخ الوفاة أدق من تاريخ الميلاد الذي هو تقريبي في غالب الأحيان خاصة قبل فرض القانون المدني في المدن والحواضر وإلزام العائلة
بتسجيل المولود في الحالة المدنية في حدود 48 ساعة أو التعرض للعقوبة. ومن النّاس من فضّل التستر عن ميلاد أبنائه أو وفاتهم لأسباب موضوعية على أن يعلن عنهم بعد فوات الوقت، ويتعرض جراء ذلك للعقوبة خاصة في ظل الحكم الاستبدادي أو الاحتلال الأجنبي؛ فأحيانا يأخذ الطفل الجديد اسم وتاريخ ميلاد أخيه الذي توفّي من قبل ولم يسجلفي سجّل الوفيات وذلك اتقاءً لشر المستعمِر وتفاديا لبطشه. إنّ عدداً من العلماء والأدباء والسياسيين الذين ولدوا في الأرياف في الفترة الاستعمارية لم يسجلوا دائما حسب يوم ميلادهم لأسباب سياسية واجتماعية ومادية وغيرها. هناك من يعتبر ذلك شكلا من أشكال المقاومة للاحتلال بعدم الاعتراف بإدارتها، ومنهم من يتستر على أولاده حتى لا يجنّدوا بقوة في الجيشالفرنسي خاصة بعد فرض قانون التجنيد الإجباري بداية من عام 1911. وهناك من لا يملك القدرة المادية أو الصحية للسفر والتنقل
منالأرياف البعيدة والقرى المنعزلة إلى المدن حيث توجد المؤسسات الإدارية، …الخ. هذا من الجانب القانوني والسياسي والاقتصادي، أما من الجانب الاجتماعي والانثروبولوجي، أقول إنّ النّاس تهتم بالشخص عندما يكبر
ويصبح علما ومعروفا وليس حين يولد وهو نكرة. فلا أحد اهتم بولادة ابن باديس إلا والديه وعائلته، بينما اهتم بوفاته الكثير من الناس فيالجزائر وخارجها. والشيخ بن باديس كان محظوظا، ولد في حاضرة قسنطينة وينتمي للأسرة بورجوازية وعالمة أسرعت إلى تسجيل ولادته. ورغم ذلك نجد بعض المقالات و الدراسات عن الحركة الإصلاحية اكتفت بذكر السنة فقط و أخرى تحدثت عن 5 ديسمبر ، ثمّ فصِّل في الأمر بعد نشر شهادة ميلاده في السنوات الأخيرة والتي تؤرخ ميلاده بـ 4 ديسمبر 1889. إنّ الدولة المحترمة لا تبني سياستها وقراراتها إلا على اليقين، لذلك اختارت الحكومة الجزائرية يوم 16 أفريل تاريخ وفاة ابن باديس
للاحتفالبيوم العلم وليس تاريخ ولادته، عرفانا بجهوده الإصلاحية من أجل بناء النهضة العلمية في الجزائر. ولو أردنا اليوم ترسيم يوم لـــــ “التاريخ” في الجزائر واختارنا -على سبيل المثال كرمز ومعلم- الدكتور أبو القاسم سعد الله، فهل نختارتاريخ ميلاده الذي يجهله هو نفسه، وقد قدّره بالتقريب بشهر جويلية 1930، أو نختار تاريخ
وفاته الدقيق وهو 14 ديسمبر 2013؟ لا شــكأننا سنختار تاريخ وفاته المضبوط بدقة. وهذا المثال ينطبق أيضا على عدد من الأدباء والشعراء والفلاسفة والعلماء الجزائريين الذين نعرف فقط عام ولادتهم، بينما نعرف المعلومات المفصلة عن سجل وفاتهم. لكل هذه الاعتبارات، تفضّل العديد من الدول الاحتفال بالسنة عوضا من الاحتفال باليوم مثل سنة ابن خلدون، سنة ابن رشد، سنة
شكسبير،سنة روسو… إحياء لمرور فترة كاملة (نصف قرن/ قرن/ قرنين…) على ميلاد العَلَم أو وفاته في ذلك العام. وخلاصة القول بالمختصر المفيد: تاريخ الميلاد الصحيح والدقيق لا تعرفه إلاّ الأمهات!.